« نظام التّفاهة » أو « La médiocratie ». أحد أكثر المؤلفات الفكرية مقروئية في القرن الجديد، ومن أكثرها مبيعا، مُصنّف في خانة أدبيات الدِّراسات الثّقافية لما بعد الحداثة، كاتجاه فكري يُعنى بنقد الحداثة الغربية، واستشراف مآلاتها، ومُساءلة صيرورتها التي كرّست النّزعة المادية والإستهلاك. وحوِّلت الإنسان إلى سلعة، وعملت على إضفاء النزعة التشييئية على كل شيئ. الكتاب الذي يستعرض حسب كاتبِه ما يصفه بالنظام الإجتماعي، أي المنظومة العالمية الراهنة الذي تُسيطر فيها طبقة الأشخاص (التافهين) على جميع مناحي الحياة، وبموجبه تتِم مكافأة التّفاهة عِوضاً عن العمل الجاد والملتزم. عِلماً أن مؤلِف هذا الكتاب هو « آلان دونو، Alain Deneault »، الفيلسوف والنّاقد الإجتماعي والسياسي الكندي، والأستاذ المحاضر في علم الإجتماع السياسي بجامعة كيبك الكندية.
أشار مؤلف بإلحاح إلى التّحول الذي طرأ على تمثٌلنا لمفهوم العمل، وجوهره، وذلك بفعل سيادة منطق الرأسمالية المتوحشة، فجرّدت البشر من إنسانيتهم وحولتهم إلى آلات، مُسخِّرة إياها لتحقيق فائض الإنتاج المساهم -ولا ريب- في استمرار المنظومة الاقتصادية الإمبريالية المتوحشة، إذ تم الانتقال من مفهوم الحرفة التي ارتبطت بالشغف والخلق والإبداع، إلى مفهوم الوظيفة بوصفها وسيلة لتوفير القوت وحفظ البقاء، ما يصبٌ في صالح نمو الرأسمال وتغوٌله. كذلك سلّط الضوء على حقيقة صادمة أخرى مفادها أن الفضاءات التي من المفترض أن تُصنَّف في خانة مضادات الرداءة، وفي مقدمتها الجامعة ومراكز التعليم والبحث والمعرفة، صارت -مع كل الأسف- لبنة أساسية في (نظام التفاهة) الذي نعيشه. فالجامعات تخلّت عن أدوارها التّعليمية والتربوية المنتجة للمثقفين النقديين الحقيقين، ممن يشتبكون فكرياً مع قضايا الشأن العام بالمتابعة والتحليل، و يتصدّون للأسئلة والإشكاليات المجتمعية الشائكة والمُلحّة.. وأصبحت تُفرّخ الإنتهازيين والمرتزقة، الذين لا عمل لهم سوى إضفاء الشّرعية على الأوليغارشية الإقتصادية المهيمنة وكل ما يدور في فلكها. وعليه، تَحوّل المثقفين إلى أشباه خبراء أو محامين عن الأوليڨارشيات. كذلك يؤكد « دونو » على ظاهرة انسحاب التفكير العميق والتأملي في النقد والنظر إلى الأشياء وتقييمها، ما أفسح المجال واسعا أمام تغول النزعة التقنية والتقنوية ذات الطبع التنميطي والسِّمة التّبسيطية. أما فيما يخص عالم التجارة والإقتصاد، المال والأعمال، فيصفه الفيلسوف الكندي بأنه « القلب النّابض للتفاهة »، مُفندا ومنتقدا بعض النظريات الكلاسيكية في الإقتصاد الرأسمالي التي تفيد بأن السوق تُحركه اعتبارات عقلانية مضبوطة، و مستشهدا بالعواقب الخارجة عن سيطرتنا التي يسببها التّحكم في خوارزميات تقنيات الذكاء الإصطناعي وتكنولوجيات الإعلام والإتصال والسّوشيال ميديا، والتي يتحكم فيها رواد المال والأعمال، كما عمل كذلك على مُساءلة القوى التي يُفترض أن تشكّل ثقلاً مضاداً لسطوة الرأسمال، والتي تم تدجينها وإِخضاعها، نقول ذلك ونحن نفكر في النقابات العمالية والأحزاب السّياسية وخاصة اليسارية منها، والتي تخلت عن أدوارها وسارت في نهج مهادنة الشركات الإقتصادية الضخمة وأرباب الأعمال عموما، وذلك جعل الكثير من قيادات التنظيمات النقابية يتحولون إلى حمَلة أسهم ومستثمرين وأصحاب أملاك، كمقابل لمساعدة النظام السائد على بسط المزيد من سيطرته على عالم اليوم. ومن النّقاط الجوهرية التي انتقدها كذلك، تحويل الفن والثقافة إلى صناعة، وإخضاعها لسيطرة التّافهين من أصحاب الذّوق الهابط، في حين أضحت الأعمال الفنية والثّقافية الرّاقية، والتي تحترم ذائقة المتلقي، عملة نادرة. والسبب في ذلك هو هيمنة منطق السوق الإقتصادية على المنتج الفني والصناعات الثقافية عموما، إذ صارت مُسخّرة لتمرير الرسائل وإشباع الحاجيات الضرورية لاستمرار عمل النظام الرأسمالي وتكريس الإستهلاك، وخير دليل على ذلك ملكية أصحاب رؤوس الأموال لوسائل الإعلام وسيطرتهم عليها من جهة، واستحواذهم على سوق الإشهار والدعاية والعلاقات العامة من جهة ثانية.
في الأخير، يخلص « آلان دونو » إلى أننا نعيش في ظل سيطرة أوليغارشية، أو حكم أقلية لوتوقراطية من الأثرياء، وليس في كنف نظام ديمقراطي مُتّزن وعقلاني، يستوعب كافة التّوجهات والمصالح. حُكم تتضخم فيه أدوار الشركات العالمية والمنظمات غير الحكومية يوما بعد يوم، لتواصل نهب موارد دول الجنوب من خلال استخدام الدعاية المغرضة وتشويه سمعتها بآيديولوحيات زائفة تحملها وتنشرها عبر وسائل الإعلام الجماهيرية الماس ميديا، وكذلك النيوميديا،. ثم يطرح سؤالا متشائما: كيف نتخلص من نظام التفاهة؟ و يجيب بأن السّبيل للإطاحة به لا يمكن أن يتم إلا بكيفية جماعية، فيما يصفه بـ »القطيعة الجمعية »، وليس عبر « نُشدان الخلاص الفردي ». بأسلوب آخر، الخلاص يقتضي أن نسلك طرقا مدروسة بعيدة المدى، مبنية على تفكير راديكالي منظم وممنهج، لإنهاء وجود المؤسسات والقواعد التي تضر بالصّالح العام، بعالمنا الذي نعيش فيه
خليل بن عزة، أستاذ جامعي، ناقد و محلل اعلامي