تحولت أساليب المقاومة الشعبية في الجزائر إلى تراث جزائري أصيل وفلكلور يميز ولايات الغرب الجزائري ونقصد بهذا مايسمى بـ « الفنتازيا »، فن يمجد الحلقات المتواصلة من النضال لحماية واستعادة الأرض على خطى الأمير عبد القادر، ترتبط الفانتازيا تقليديا بالمناسبات الاحتفالية، والتي تكون خلالها ألعاب البارود أقوى لحظاتها. وتقام فروسية البارود خصوصا في مناسبات تخليد ذكرى الأولياء، المعروفة بالمواسم (أوالوعدة)، والتي تقام خلالها ولائم كبرى تعرف بالزردة أو الطعام؛ إضافة إلى الأعياد الدينية كعيد الفطر وعيد المولد النبوي، ناهيك عن حفلات الزواج (وخصوصا خلال طقوس مرافقة العروس إلى منزلها الجديد)، وفي العقيقة، والحفلات الفخرية التي تحتفي بالحجاج، أو تلك التي تقام تكريما للأعيان، في مشاهد حصرية تستحق أن تكتب لها سيناريوهات تكتسح السنيما العالمية لقوة تأثيرها
تنطلق الاحتفالات في مختلف القرى الجزائرية تعبيرا عن بداية السنة الفلاحية الجديدة، يقام « الطعم » في مساحات مخصصة للتعبير عن الفرح، وتقام حولها خيم تقليدية جزائرية تعرض فيها الحلويات والألعاب تجمع أهالي المنطقة والمدعوين للاستمتاع بهذه العروض ،وهي مناسبة أيضا لإقامة وليمة كبيرة للحاضرين والضيوف، يكون فيها طبق “الكسكسي” يشارك فيها جميع سكان القرية، تفتح كل الأبواب أمام الضيوف يومها يتسابق الرجال على اكرام الضيوف، لا تقبل الاعذار أمام هذه الدعوة
شهدت قرية أولاد بوزيد بتاريخ 28 سبتمبر، في وعدة « سيدي بعقوب الشريف » أجواء الاحتفالات، كما عرفت اقبالا للجماهير من مختلف ولايات الوطن المحيطة بها، بحكم أنها تقع على حدود ثلاث ولايات الشلف، غليزان ومستغانم بأعالي جبال الظهرة الوعرة التي شهدت على ثورة الكفاح التي قادها « بومعزة » ضد الاستعمار الفرنسي، ديكور طبيعي ينسيك تعب الطريق ومطباته
استقبلنا » الشنفرة » كبير القرية بمنزله فور وصولنا لحضور تفاصيل حفل ختان حفيده عيسى، أين تجتمع النسوة لتحضير قصعة الكسكسي » بكل فرح وسط جملة من الزغاريت والغناء الشعبي الذي يرمز لتراث وتقاليد الاعراس والمناسبات في المنطقة، التي تنقل بعد صلاة العصر الى ملعب القرية أين ستقام الاحتفال بالطعم
تستعد فرق من “الخيّالة” في جو من الفرح لعرض “الفنتازيا”، تقوم الفرسان برص صفوف الخيول، ثم يحشون بنادقهم بـ”البارود بتفاصيل جميلة تميزها خشبية ومرصعة بالنقوش، ويرتدون لباساً تقليديا موحدا . ولهذه الفرقة قائد يسمى “قائد العلفة” وهو الذي يعطي إشارة انطلاق الخيول المدربة، وحينها يردد الفرسان بعض الأهازيج المستمدة من التراث الشعبي الذي يعبر عن أمجاد وبطولات مناطقهم وبلدهم، ولا يقتصر المظهر على الفرسان فقط، بل تحظى الخيول بقيمة أعلى التي تعطى للفارس، من خلال ذلك اللباس الخاص الممثل في السرج الذي تتم خياطته من أثواب رفيعة مع تزيين لجامها بنقوش ذهبية، تستمر التدريبات في انتظار وصول جميع فرق الخيالة لتنطلق الخيول البربرية العالية في سباق بينها بسرعة قصوى، وحين اقترابها من خط النهاية يستعد الفرسان لإطلاق البارود بشكل جماعي بحركات مميزة يقولون إنها معيار نجاح الفارس، وعند إطلاقها يتخيل الحاضرون وكأنها طلقة واحدة لكونها أطلقت في ثانية واحدة، وسط زغاريد النسوة وتصفيقات وتشجيعات الحاضرين، حيث تقصى الفرقة في حالة ما إن فشلت في تحقيق هذا في ثلاث محاولات متتالية. حيث يولي سكان هذه القرية أهمية خاصة لـ”الفنتازيا” ، إذ يدرب الأطفال منذ الصغر امتطاء الخيل وبشكل مكثف على تقنيات ركوب الخيل وإطلاق البارود، إلى أن يصل إلى درجة المحترف من خلال الألفة التي تتكون بينه وبين فرسه، ويتمكن بعدها من استعراض مهاراته في سن العشرين
تتميز هذه العروض التي تسمى بالعلفة والتّبُوريدَة وصحاب البارود كونها أشبه بالعروض عسكرية، لتحاكي رمزيتها في تجسيدها لتعلق هذه الشعوب بالأحصنة والفروسية، التي تعبر عن رمزاً تاريخياً وثقافيا تتوارثه الأجيال
وهي ذات شعبية واسعة لدى الجماهير، وتشكل الفرجة الرئيسية للمهرجانات الثقافية والفنية (المعروفة بـ “الموسم” أو “الوعدة”)، التي تنظم في سلسلة جبال الظهرة- من بلدية الصبحة الى ولاية غليزان وتتمتع بجاذبية قوية بسبب قدرتها على إبهار المشاهدين بفضل صبغة الغموض والأساطير التاريخية القديمة التي تجعلها تضفي تأثيرا وسحرا خاصين على محبي تلك المشاهد
يحاول سكان قرية أولاد بوزيد الحفاظ قدر المستطاع على هاته العادات رغم المؤثرات الخارجية، أهمها تلك الاتهامات المتطرفة، وهي تعتبر استحضارا لملاحمها العسكرية التاريخية، ورمزا للقوة والشجاعة والإقدام
وبالعودة الى تاريخ الفنتازية، كلمة « فانتازيا » يونانية الأصل ثم انتقلت إلى اللغة اللاتينية المتأخرة والإيطالية لتدل على معنى “مشهد متخيل” ويُشار إلى نفس المصطلح في اللغة الاسبانية للدلالة على الخيال وفي نفس الوقت تعني الغرور والتعالي. والذي دخل أيضا إلى اللهجات المغاربية، ذات الروافد الأندلسية، للدلالة على المجد والجاه
كما تعبر عن العلاقة بين الخيل وشعوب شمال أفريقيا، وتؤكد بقايا الهياكل العظمية للخيول الجزائرية ما قبل التاريخ بما يقرب من 40,000 سنة، والأحدث منها، المتمثلة، في الرسوم الصخرية للأطلس الصحراوي التي يعود تاريخها إلى 9000 سنة قبل الميلاد، إلى تواجد قديم للحصان البربري في الجزائر
تميزت هذه الأحصنة البربرية بسهولة قيادتها وبكونها مطيعة وصبورة بفضل مهارتهم في تقنيات المناوشة العسكرية، عبر تتابع الهجمات والمرتدات والانسحابات السريعة، والتي تساعد عليها السلوكيات الحربية للحصان البربري، وهي نفس التقنية العسكرية، المعروفة في الثقافة العسكرية العربية بأسلوب “الكر والفر”، حيث كانت الخيول تجري بأقصى سرعة في ساحة المعلب بالقرية ، تصاحبها صيحات الفرسان، وتنتهي الهجمة بإفراغ الفرسان لذخيرتهم، ليبدأ الكر والفر، وهكذا دواليك، إلى نهاية المعركة.
هذا البعد العسكري هو الرافد الأساسي لرمزية الفانتازيا، التي تعتبر تجسيدا للحرب، وتمتد أيضا إلى شعائر استعراض القوة والشجاعة، بل تصل رمزيتها أيضا إلى البعد النفسي، باعتبارها استعارة رمزية للفحولة سكان القرية.
في الوقت الحاضر، يركز سكان قرية أولاد بوزيد حسب تصريحاتهم على ضرورة تطوير هذه الاحتفالات وادراجها رسميا كتراث استعراضي فلكلوري العرض الفروسي،الذي لا ينحصر على الجانب الفرجوي فقط في المضمار، بل يمتد إلى محيط المتفرجين، الذي تؤثثه مجموعة من الفنون الغنائية والشفهية، كالعيطة والقصبة، والتي تتغنى بموضوعات البطولات التاريخية وبجمالية وأناقة الفرسان والجياد، من خلال الاشراف على تنظيم فعاليات هذه المناسبات وتخصيص مساحات آمنة لإقامتها حفاظا على سلامة الحضور والعارضين
نصيرة سايب
One thought on “الطعم والفنتازيا.. تراثٌ جزائري أصيل يُحاكي تاريخ المقاومة الشعبية في سلاسل جبال الظهرة”
موضوع في المستوى لكن الكرونولوجيا التي تم التطرق بها تعودنا إلى التاريخ نحن دائما أن نبحث كيفية الحفاظ على هذا الموروث من الإندثار يعني غيب في المقال تصريحات القائمين على هذه الوعدة ام الزيارة بتعبير المناطق الصحراوية